الطاقة البشرية المحايدة .. بين الخير والشر
* محمد قطب
الطاقة النفسية كلها .. فيما عدا خطوطاً قليلة جداً .. محايدة بين الخير والشر. لا لون لها في ذاتها. ولكن التوجيه الذي يقع لها هو الذي يحولها إلى طاقة خيرة أو طاقة شريرة.
هذا تيار من الماء تستطيع أن تحول لرى الأرض واستنبات النبات أو تستطيع أن تغرق به الأرض وتقتل الحياة. هو في الحالة الأولى خير. وفي الحالة الثانية شر. ولكنه هو الماء ذاته في الحالتين. لم تتغير طبيعته. ولكن تغيرت وظيفته.
وهذا تيار من الكهرباء تستطيع أن تضيء به المصابيح هدى ونوراً للناس. وتستطيع أن تصعق به الأحياء. هو في إحدى حالتيه خير وفي الثانية شر. ولكنه هو هو تيار الكهرباء لم يطرأ عليه تغيير.
وكذلك الطاقة النفسية. طاقة محايدة. تصلح أن تستخدمها للخير كما تصلح هي ذاتها أن تستخدمها في الشر. لا تتغير طبيعتها في الحالتين وإنما يتغير التوجيه.
خذ طاقة الجنس. أشر هي في ذاتها أم خير؟
لا شيء من ذلك. إنها طاقة ميكانيكية جسمية توازيها طاقة نفسية تتحرك معها في نفس الاتجاه. وليس الخير أو الشر كامناً في طبيعتها. ولكنك توجهها أنى شئت. توجهها لإحداث النسل، في الطريق التي تتمشى مع أهداف الحياة وتحققها في نظافة فإذا هي خير. خير لا يستحي المسلم أن يقرأ عليه اسم الله الكريم. وتوجهها لهدف منقطع عن هدف الحياة، ناشز منحرف، فإذا هي شر. شر تنبغي محاربته وإعلان الحرب عليه.
وخذ طاقة القتال. إن الإنسان السوى مشتمل على هذه الطاقة كجزء من بنيته. ولكن شر هي أم خير؟
لا هذا ولا ذاك. إنها مجرد قدرة على الصراع. قدرة ميكانيكية جسمية توازيها قدرة نفسية في ذات الاتجاه. وهي ليست في ذاتها خيراً أو شراً. ولكنك تستخدمها لإقامة الحق والعدل ودفع الظلم والعدوان فهي خير. وتستخدمها في الظلم والعدوان فهي شر واضح مبين.
وشبيه بالطاقة النفسية الطاقة الفكرية والروحية.
فالقدرة على التفكير طاقة محايدة. ولكنك تستخدمها للنفع العام فهي خيرة، وتستخدمها للإيذاء وإيقاع الضرر فهي شريرة. ولكنها هي في ذاتها من حيث هي نشاط بشري لم تتغير في الحالتين.
وكذلك الطاقة الروحية. وقد غلب على الناس أن يتصوروا الطاقة الروحية مقرونة بالخير والنقاء والسمو. ولكنها ـ ككل طاقة بشرية ـ محايدة في ذاتها وصالحة لكلا التوجيهين. إنها ـ كالذكاء، وككل الطاقات الأخرى ـ موهبة توهب للناس على درجات متفاوتة. فهي عند بعضهم ضعيفة بحيث لا تكاد تظهر، وعند آخرين قوية واضحة الآثار. والشخص ذو الموهبة الروحية الخارقة يستطيع أن يوجهها إلى الخير أو الشر سواء. وقصة راسبوتين ساحر روسيا معروفة في التاريخ. إنها طاقة روحية جبارة وجهت وجهة الشر والأذى والإيقاع بالناس. وقصص الأنبياء والقديسين معروفة كذلك في التاريخ. طاقة روحية خارقة وجهت وجهة الخير. وليس الناس كلهم أنبياء وقديسين، وليسوا كلهم راسبوتين. ولكن الواقع المشهود يعرف درجات مختلفة من الطاقة الروحية تستخدم للخير وللشر سواء.
هناك إذن نتيجة نستطيع أن نطمئن إليها: هي أن الطاقة للبشرية ـ في معظمها ـ طاقة محايدة تصلح للخير والشر بحسب ما تتلقاه من توجيه.
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها .. ).
نعم. (النفس) البشرية وحدها هي التي تعرف الفجور والتقوى. تعرف النقيضين وتقدر على النقيضين. ومن هان توصف عمال الإنسان بأنها خير أو شر، ويعاقب أو يثاب.
(قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها .. ).
وقد وجد في القرن العشرين ناس يريدون أن يردوا الإنسان حيواناً لا توصف أعماله بالخير أو الشر. ناس يغفلون قدرة الإنسان على التلون، ويجعلون من طبيعته المزدوجة طبيعة مفردة الاتجاه.
والتربية كما قلنا هي أخطر مهام الإنسانية. هي التي يتوقف عليها أن نصبح آدميين أو نرتد حيوانات هي التي تجعلنا نزكي أنفسنا أو ندسيها .. فنفلح أو نخيب.
وقد أدرك الإنسان منذ فجر حياته قيمة التربية فوضع لها قواعد وأهدافاً تتناسب مع درجة وعيه لنفسه وإدراكه لحقيقة رسالته في الأرض. وما تزال التربية موضع العناية من الشعوب كلها وإن اختلفت قواعدها وأهدافها بين الخطأ والصواب.
وقد فتن العلماء أن يبحثوا الإنسان ((على طبيعته)). أي بغير توجيه معين. والإنسان على طبيعته أقرب إلى الهبوط والانحراف إلى الشر.
ولا يتعارض ذلك مع ما قلناه من قبل من أن الطاقة البشرية محايدة في ذاتها، ليس لها لون متميز ..
ونرجع إلى قولة فرويد: إن النفس البشرية تشتمل على طاقة محايدة. ولكن المشاعر الأقوى في النفس تستخدمها وتسخرها لأغراضها.
فالطفل يولد وله طاقات محايدة لا لون لها ولا اتجاه ..
ثم يحس بالجوع ـ مثلاً ـ فيوجه طاقاته للبحث عن الثدي، ثم إلى عملية الرضاعة. ويحس بالحاجة إلى إخراج فضلانه فيوجه بعض طاقاته لإخراجها.
ويحس بالخوف فيوجه بعض طاقاته للاحتماء في صدر أمه.
ويحس بالحاجة إلى ((المجتمع)) فيوجه بعض طاقاته للاتصال بالآخرين.
ورويدا رويدا تتلون الطاقة حسبما تسخرها حاجات الطفل.
أي أنه في هذه الفترة محكوم بضروراته، وطاقاته خاضعة لهذه الضرورات. فهو في ذلك أشبه بالحيوان.
ولكن كيانه ينمو بعد ذلك ولا يقف عند هذا الحد الحيواني. ففي بنيته مقدرات أخرى، وأشواق أعلى من الضرورات. هذه الأشواق تتأخر في الظهور، ولكنها طور طبيعي من أطوار الإنسان. كعملية الإزهار في النبات. تأتي متأخرة ولكنها طبيعية.
وهذه الأشواق العليا تستطيع أن تستخدم الطاقة المحايدة وتسخرها لأغراضها كما تصنع الضرورات. ولكنها في حاجة إلى معاونة من الخارج، معاونة فعالة لإنضاجها وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وإلا انحرفت أو تأخرت في الظهور.
فإذا أخذنا الإنسان ((على طبيعته)) بمعنى دراسته دون توجيه ولا تهذيب، فإننا بذلك نغفل من حسابنا الجانب الآخر من طبيعته، الجانب الموجود في حالة كامنة، والذي يحتاج إلى التوجيه لكي يظهر للعيان.
وإذا وضعنا قواعد التربية على هذا الأساس ـ الذي نزعم خطأ أنه الأساس الطبيعي ـ فمعنى ذلك أننا نترك الإنسان محكوماً بضروراته إلى الأبد، وتترك الطاقة المحايدة تتلون بهذا اللون فتصبح بعد حين طاقة شريرة. شريرة لا لأن ضرورات الإنسان في ذاتها شريرة، ولكن لأن غياب العنصر الآخر الذي يعادلها يجعلها تتطرف في اتجاه واحد. وذلك ما نسميه بالشر لأنه ـ كما ثبت من التجربة ـ يعود بالضرر على الفرد وعلى الجماعة.
فطاقة التملك ـ وهي طاقة في ذاتها محايدة ـ لو تركت للضرورات وحدها تحكمها، تتخذ بعد حين لون السرقة والغصب والاحتيال والنصب ..
وطاقة القتال ـ وهي كذلك طاقة محايدة ـ لو تركت للضرورات وحدها تحكمها، تتخذ بعد حين لون العدوان.
والإسلام قد أدرك الطبيعة البشرية المحايدة الطاقة المزدوجة الاتجاه:
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها).
وأوجب تزكيتها. أي تربيتها وتهذيبها. وجعل ذلك أمانة في عنق الوالدين وأولياء الأمور.
وجعل هذه التزكية على أساس إنساني بحت لا يعرف فوارق الوطن ولا اللغة ولا الجنس ولا حتى العقيدة.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... )، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ... ).
وجعل أساس هذه التزكية هو التهذيب لا الكبت.
فهو لا يحب أن يمحق طاقة حيوية أو يعطلها عن عملها. لأنه يعرف أن كل طاقة حيوية يشتمل عليها الإنسان هي جزء من كيانه ضروري له في حياته. وتعطيله أو كبته معناه إهدار هذه الطاقة وتضييع الفائدة المرجوة منها.
ولكنه كذلك لا يترك الإنسان (على طبيعته) بالمعنى الخاطئ من هذا التعبير، الذي يزعم أن ضرورات الجسد هي الطبيعة الوحيدة للإنسان. بل يتركه (على طبيعتيه). فيعطي ضرورات جسده نصيبها المعقول: ((إن لبدنك عليك حقاً)) ويعطي أشواقه العليا نصيبها المعقول: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك)) ويوازن بين هذه وتلك ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).
والإنسان بعد من أعظم معجزات الخلق: لا هو بالملاك ولا بالشيطان. ولكنه مشتمل على الخير والشر، وقادر في لحظات الارتفاع أن يصبح كالملائكة وقادر في لحظات الهبوط أن يصبح كالشياطين
* محمد قطب
الطاقة النفسية كلها .. فيما عدا خطوطاً قليلة جداً .. محايدة بين الخير والشر. لا لون لها في ذاتها. ولكن التوجيه الذي يقع لها هو الذي يحولها إلى طاقة خيرة أو طاقة شريرة.
هذا تيار من الماء تستطيع أن تحول لرى الأرض واستنبات النبات أو تستطيع أن تغرق به الأرض وتقتل الحياة. هو في الحالة الأولى خير. وفي الحالة الثانية شر. ولكنه هو الماء ذاته في الحالتين. لم تتغير طبيعته. ولكن تغيرت وظيفته.
وهذا تيار من الكهرباء تستطيع أن تضيء به المصابيح هدى ونوراً للناس. وتستطيع أن تصعق به الأحياء. هو في إحدى حالتيه خير وفي الثانية شر. ولكنه هو هو تيار الكهرباء لم يطرأ عليه تغيير.
وكذلك الطاقة النفسية. طاقة محايدة. تصلح أن تستخدمها للخير كما تصلح هي ذاتها أن تستخدمها في الشر. لا تتغير طبيعتها في الحالتين وإنما يتغير التوجيه.
خذ طاقة الجنس. أشر هي في ذاتها أم خير؟
لا شيء من ذلك. إنها طاقة ميكانيكية جسمية توازيها طاقة نفسية تتحرك معها في نفس الاتجاه. وليس الخير أو الشر كامناً في طبيعتها. ولكنك توجهها أنى شئت. توجهها لإحداث النسل، في الطريق التي تتمشى مع أهداف الحياة وتحققها في نظافة فإذا هي خير. خير لا يستحي المسلم أن يقرأ عليه اسم الله الكريم. وتوجهها لهدف منقطع عن هدف الحياة، ناشز منحرف، فإذا هي شر. شر تنبغي محاربته وإعلان الحرب عليه.
وخذ طاقة القتال. إن الإنسان السوى مشتمل على هذه الطاقة كجزء من بنيته. ولكن شر هي أم خير؟
لا هذا ولا ذاك. إنها مجرد قدرة على الصراع. قدرة ميكانيكية جسمية توازيها قدرة نفسية في ذات الاتجاه. وهي ليست في ذاتها خيراً أو شراً. ولكنك تستخدمها لإقامة الحق والعدل ودفع الظلم والعدوان فهي خير. وتستخدمها في الظلم والعدوان فهي شر واضح مبين.
وشبيه بالطاقة النفسية الطاقة الفكرية والروحية.
فالقدرة على التفكير طاقة محايدة. ولكنك تستخدمها للنفع العام فهي خيرة، وتستخدمها للإيذاء وإيقاع الضرر فهي شريرة. ولكنها هي في ذاتها من حيث هي نشاط بشري لم تتغير في الحالتين.
وكذلك الطاقة الروحية. وقد غلب على الناس أن يتصوروا الطاقة الروحية مقرونة بالخير والنقاء والسمو. ولكنها ـ ككل طاقة بشرية ـ محايدة في ذاتها وصالحة لكلا التوجيهين. إنها ـ كالذكاء، وككل الطاقات الأخرى ـ موهبة توهب للناس على درجات متفاوتة. فهي عند بعضهم ضعيفة بحيث لا تكاد تظهر، وعند آخرين قوية واضحة الآثار. والشخص ذو الموهبة الروحية الخارقة يستطيع أن يوجهها إلى الخير أو الشر سواء. وقصة راسبوتين ساحر روسيا معروفة في التاريخ. إنها طاقة روحية جبارة وجهت وجهة الشر والأذى والإيقاع بالناس. وقصص الأنبياء والقديسين معروفة كذلك في التاريخ. طاقة روحية خارقة وجهت وجهة الخير. وليس الناس كلهم أنبياء وقديسين، وليسوا كلهم راسبوتين. ولكن الواقع المشهود يعرف درجات مختلفة من الطاقة الروحية تستخدم للخير وللشر سواء.
هناك إذن نتيجة نستطيع أن نطمئن إليها: هي أن الطاقة للبشرية ـ في معظمها ـ طاقة محايدة تصلح للخير والشر بحسب ما تتلقاه من توجيه.
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها .. ).
نعم. (النفس) البشرية وحدها هي التي تعرف الفجور والتقوى. تعرف النقيضين وتقدر على النقيضين. ومن هان توصف عمال الإنسان بأنها خير أو شر، ويعاقب أو يثاب.
(قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها .. ).
وقد وجد في القرن العشرين ناس يريدون أن يردوا الإنسان حيواناً لا توصف أعماله بالخير أو الشر. ناس يغفلون قدرة الإنسان على التلون، ويجعلون من طبيعته المزدوجة طبيعة مفردة الاتجاه.
والتربية كما قلنا هي أخطر مهام الإنسانية. هي التي يتوقف عليها أن نصبح آدميين أو نرتد حيوانات هي التي تجعلنا نزكي أنفسنا أو ندسيها .. فنفلح أو نخيب.
وقد أدرك الإنسان منذ فجر حياته قيمة التربية فوضع لها قواعد وأهدافاً تتناسب مع درجة وعيه لنفسه وإدراكه لحقيقة رسالته في الأرض. وما تزال التربية موضع العناية من الشعوب كلها وإن اختلفت قواعدها وأهدافها بين الخطأ والصواب.
وقد فتن العلماء أن يبحثوا الإنسان ((على طبيعته)). أي بغير توجيه معين. والإنسان على طبيعته أقرب إلى الهبوط والانحراف إلى الشر.
ولا يتعارض ذلك مع ما قلناه من قبل من أن الطاقة البشرية محايدة في ذاتها، ليس لها لون متميز ..
ونرجع إلى قولة فرويد: إن النفس البشرية تشتمل على طاقة محايدة. ولكن المشاعر الأقوى في النفس تستخدمها وتسخرها لأغراضها.
فالطفل يولد وله طاقات محايدة لا لون لها ولا اتجاه ..
ثم يحس بالجوع ـ مثلاً ـ فيوجه طاقاته للبحث عن الثدي، ثم إلى عملية الرضاعة. ويحس بالحاجة إلى إخراج فضلانه فيوجه بعض طاقاته لإخراجها.
ويحس بالخوف فيوجه بعض طاقاته للاحتماء في صدر أمه.
ويحس بالحاجة إلى ((المجتمع)) فيوجه بعض طاقاته للاتصال بالآخرين.
ورويدا رويدا تتلون الطاقة حسبما تسخرها حاجات الطفل.
أي أنه في هذه الفترة محكوم بضروراته، وطاقاته خاضعة لهذه الضرورات. فهو في ذلك أشبه بالحيوان.
ولكن كيانه ينمو بعد ذلك ولا يقف عند هذا الحد الحيواني. ففي بنيته مقدرات أخرى، وأشواق أعلى من الضرورات. هذه الأشواق تتأخر في الظهور، ولكنها طور طبيعي من أطوار الإنسان. كعملية الإزهار في النبات. تأتي متأخرة ولكنها طبيعية.
وهذه الأشواق العليا تستطيع أن تستخدم الطاقة المحايدة وتسخرها لأغراضها كما تصنع الضرورات. ولكنها في حاجة إلى معاونة من الخارج، معاونة فعالة لإنضاجها وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وإلا انحرفت أو تأخرت في الظهور.
فإذا أخذنا الإنسان ((على طبيعته)) بمعنى دراسته دون توجيه ولا تهذيب، فإننا بذلك نغفل من حسابنا الجانب الآخر من طبيعته، الجانب الموجود في حالة كامنة، والذي يحتاج إلى التوجيه لكي يظهر للعيان.
وإذا وضعنا قواعد التربية على هذا الأساس ـ الذي نزعم خطأ أنه الأساس الطبيعي ـ فمعنى ذلك أننا نترك الإنسان محكوماً بضروراته إلى الأبد، وتترك الطاقة المحايدة تتلون بهذا اللون فتصبح بعد حين طاقة شريرة. شريرة لا لأن ضرورات الإنسان في ذاتها شريرة، ولكن لأن غياب العنصر الآخر الذي يعادلها يجعلها تتطرف في اتجاه واحد. وذلك ما نسميه بالشر لأنه ـ كما ثبت من التجربة ـ يعود بالضرر على الفرد وعلى الجماعة.
فطاقة التملك ـ وهي طاقة في ذاتها محايدة ـ لو تركت للضرورات وحدها تحكمها، تتخذ بعد حين لون السرقة والغصب والاحتيال والنصب ..
وطاقة القتال ـ وهي كذلك طاقة محايدة ـ لو تركت للضرورات وحدها تحكمها، تتخذ بعد حين لون العدوان.
والإسلام قد أدرك الطبيعة البشرية المحايدة الطاقة المزدوجة الاتجاه:
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها).
وأوجب تزكيتها. أي تربيتها وتهذيبها. وجعل ذلك أمانة في عنق الوالدين وأولياء الأمور.
وجعل هذه التزكية على أساس إنساني بحت لا يعرف فوارق الوطن ولا اللغة ولا الجنس ولا حتى العقيدة.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... )، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ... ).
وجعل أساس هذه التزكية هو التهذيب لا الكبت.
فهو لا يحب أن يمحق طاقة حيوية أو يعطلها عن عملها. لأنه يعرف أن كل طاقة حيوية يشتمل عليها الإنسان هي جزء من كيانه ضروري له في حياته. وتعطيله أو كبته معناه إهدار هذه الطاقة وتضييع الفائدة المرجوة منها.
ولكنه كذلك لا يترك الإنسان (على طبيعته) بالمعنى الخاطئ من هذا التعبير، الذي يزعم أن ضرورات الجسد هي الطبيعة الوحيدة للإنسان. بل يتركه (على طبيعتيه). فيعطي ضرورات جسده نصيبها المعقول: ((إن لبدنك عليك حقاً)) ويعطي أشواقه العليا نصيبها المعقول: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك)) ويوازن بين هذه وتلك ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).
والإنسان بعد من أعظم معجزات الخلق: لا هو بالملاك ولا بالشيطان. ولكنه مشتمل على الخير والشر، وقادر في لحظات الارتفاع أن يصبح كالملائكة وقادر في لحظات الهبوط أن يصبح كالشياطين